قصة قصيرة بقلم علاء الأسوانى
سيدي المسئول عن تكييف القاعة
سيدى المسئول عن تكييف القاعة .. احترس الآن أبدأ الحكاية :
وحكايتى يا سيدى المسئول حكاية عربية جلفة لا تعرف آداب السلوك . كل السادة والسيدات الحاضرين فى القاعة سوف يصيبهم الغضب عندما أتكلم .. سوف يشتعل الغيظ فى قلوبهم ولذلك ، أرجوك ، يا سيدى المسئول عن تكييف القاعة أن تضغط من حين لآخر على مفتاح التبريد .
وأنت يا سيدى مهندس الصوت ..
عندما أبدأ الكلام ، حاول أن تصرف عنى انتباه السامعين ، أطلق عليهم يا سيدى مزيداً من الموسيقى الصاخبة .
أما أنت يا عزيزى البهلوان .. فعليك بإضحاك من يغضب منهم . انبطح على الأرض أو أمش على يديك . وإذا استدعى الأمر يا بهلوان ، أطلق من حنجرتك نهيقاً كالحمار .. المهم ، أن تعم الفرفشة ويتبدد الغضب .
سيداتى سادتى ..
أصل الحكاية هو سوء الحظ ، النحس اللعين الذى يُخرج إلى الدنيا طفلاً بريئاً بجسد أو وجه مشوه ، القدر الغاشم الذى يفجع الأب الطيب بموت ابنه الشاب ، الذى يزرع السرطان فى جسد الرجل الناجح .
قدر أسود كهذا ، هو الذى جعل «جنين» مدينة عربية .. ولو أن مدينة كجنين وجدت فى سويسرا ، لو أن حدائق البرتقال فيها كانت مغطاة بجليد أوروبا الناصع ، لو أن مساجدها الكثيرة كانت كنائس كاثوليكية ، لو أن أهل جنين خلقوا من جنس أبيض راق .. أستغفر الله العظيم ، لو لم تعرف جنين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة لما حدث لها ما حدث .. لكن القدر الأعمى خلق جنين مدينة عربية ولم يكتف بهذا الهوان ، فجعلها أيضاً مدينة فلسطينية ، ثم - إمعاناً فى الذل- تخير لها القدر مكاناً على الضفة الغربية ، تماماً على خط الحدود مع الدولة اليهودية المكرمة . ويشهد الله تعالى القدير ، كما تشهد تقارير المخابرات أن أحداً فى جنين لم يكن من أهل الشغب .. مدينة صغيرة جنين وبيت كبير ، والناس ودعاء .
فلاحون طيبون يتقنون زراعة البرتقال ، ولا يعرفون غيرها . يحرصون على صلاة الجمعة ويعشقون العرقى .
ولم يحدث قط ، أن سُمع لأهل جنين صوت عال أو كلمة قبيحة .. حتى فى أيام الحمق عندما كانت الأفكار السوداء عن إسرائيل تسرى كالسموم فى شرايين المنطقة العربية ، عندما كان العرب يدمنون الحديث عن تحرير فلسطين والاشتراكية والقومية .. إلى آخر هذه السخافات .
حتى فى تلك الأيام ظلت جنين كما هى ، وظل أهل جنين - كما كانوا دائماً - منصرفين إلى البرتقال ، لا يعرفون سواه ، يزرعونه ويحصدونه .
والحق أن هذا السلوك الطيب قد أثر كثيراً فى قلوب المسئولين اليهود حتى أنهم فكروا أكثر من مرة فى مكافأة عظيمة يقدمونها إلى جيرانهم الودعاء .
وكاد هذا أن يحدث فعلاً .. لولا الوقائع المؤسفة ، المؤسفة للغاية ، التى شهدتها جنين فى فصل الربيع من عام 1967 .
سيدى المسئول عن تكييف القاعة .. درجة من التبريد ..
سأقول ما حدث دفعة واحدة .. فى شهر مايو 1967 قررت جنين أن تدخل الحرب . وتصوروا أنتم يا حضرات ، زارعو البرتقال يحملون السلاح ليحاربوا ، ويحاربوا من ؟ دولة إسرائيل .. لا شك هو القدر الساخر الذى يدفع المرء إلى حتفه باختياره .
.. انبطح يا بهلوان ..
يبدأ يونيو 67 والأزمة تشتد وتستحكم ، والحرب حديث دائر . وفى يوم مهيب كالشمس شامخ كالجبل ، جذب الجيش الأردنى نفساً عميقاً ، ثم طوح بذراعه القوية .. واقتحم «جنين» . وهكذا كانت الخطة ، لأن جنين فى المواجهة لابد أن يحتلها الأردنيون ليدافعوا عنها .. ولن تنسى «جنين» هذا اليوم أبداً «مرحباً بأبطال الأردن» اللافتات العريضة تتدلى فى زهو وتنتظر . ومجالس الرجال منعقدة فى الطرقات الضيقة ، جلس بعض منهم وعجز البعض الآخر عن الجلوس من فرط اللهفة ، فهم يصعدون إلى الربوة العالية ويرجعون بأنباء منفعلة ، «باقى نصف ساعة ويصل الأبطال» .. «لعلهم الآن على المشارف» أما النساء ، فقد انهمكن فى ذلك اليوم كما لم ينهمكن من قبل ، وكيف لا ؟ والأبطال قادمون من سفر صعب ، لابد وأن يجدوا شيئاً يأكلون وشيئاً يشربون وتمخض هذا الشىء فولد عشرات الشطائر والفطائر والطواجن وكافة فصائل الأطعمة ، وصفوفاً طويلة من زجاجات العرقى الرابضة فى أحزمة الخوص .
حتى الأطفال فى جنين ، كانوا يترقبون وصول الجيش الأردنى فى شغف عظيم وللأطفال أسبابهم الخاصة ، فهى المرة الأولى التى يشهدون فيها جيشاً حقيقياً لحماً ودماً وبنادق ، جيشاً تبدو بجواره جيوش مترو جولدن ماير ، كمجموعة من اللعب القديمة .. والرديئة أيضاً .
ما أجمل هذ الرقصة يا سيدى المهندس..
تتبع