هرقل محتالا فى القاهرة
محمد المخزنجي
عندما بَدَأتْ ظاهرة تراكم القمامة فى شوارعنا، وكان ذلك منذ عدة سنوات،
وبتزامن مع ظواهر خطف أموال البنوك والخصخصة الزور ونهب أراضى الدولة، كنت
أنظر إلى أكوام الزبالة على نواصى الشوارع وإلى جوار البيوت، وأتذكر
مسرحية تجرى أحداثها فى مدينة تراكمت فيها الزبالة إلى حد عدم قدرة أهلها
على إزالتها، لهذا استدعوا « هرقل» ليزيل لهم هذه الزبالة. وقد يوحى ذلك
اللجوء إلى هرقل، بأن مبعثه الثقة فى قوته البدنية الأسطورية، لكن الحقيقة
أن مبعثه كان الثقة فى قوة أخرى أبداها هرقل فى موضوع الزبالة بالذات.
فهرقل
الأساطير الإغريقية، والذى كان وليد حب بين أمة البشرية الفاتنة «ألكمين»
وأبيه كبير الآلهة اللعوب «زيوس»، أثار حقد زوجة الأب القديمة الإلهة
«حيرا»، والتى أرادت أن تحرق قلب أم هرقل عليه، فمكثت تدبر له المكائد تلو
المكائد لتدمره، وأوقعت هذه المكائد هرقل فى أخطاء جسيمة أوغرت عليه صدر
أبيه، فحكم الأب على الابن بأن يعمل خادما لابن عمه «يوريذيوس» أمير
«أرجوس»، وكان ابن العم هذا خسيسا فأراد إذلال البطل وإشعاره بالعجز، وفرض
عليه عدة أعمال مستعصية كان عليه أن يؤديها طائعا، صادعا للعقوبة التى
فرضها عليه أبوه، وكان أحد هذه الأعمال تنظيف زرائب «أوجياس» ملك «إليس»
وصديق النذل.. ابن العم!
كان « أوجياس» ملكا بعقلية تاجر مواشى،
حوّل مملكته إلى زرائب لا أول لها ولا آخر، ولم يعبأ بتنظيف هذه الحظائر
على مدى سنوات وسنوات طالما أن البهائم تتكاثر والأرباح تستفحل. صار الروث
تلالا تسد أفق المملكة، وصارت رائحة المملكة مما ينفِّر الخنازير على بعد
عشرات الفراسخ. وعندما فُرِض التحدى على هرقل، وقف بين تلال الروث يفكر
يائسا لا فيما يستطيع أن يفعله، بل فيما لا يستطيع. لكنه وهو فى غمرة يأسه
لمح نهرا يهبط من أعالى الجبال، ويمر بجوار زرائب أوجياس، ولمعت فى ذهنه
الذى لم يكن ذكيا فكرة شديدة الذكاء والبساطة!
قام هرقل بتسخير
قوته الأسطورية فى تحويل مجرى النهر، وتكفل النهر فى مساره الجديد باكتساح
تلال القذارة وإلقائها فى البحر الكبير الشاسع بعيدا عن أرض «إليس». صارت
مملكة أوجياس مغسولة ونظيفة، بل تبرق بالنظافة. وهنا تختلف نهاية القصة
باختلاف رواتها من شعراء الإغريق، فبعضهم جعل لها خاتمة مُشرقة قام خلالها
أوجياس بمكافأة هرقل مكافأة سخية، وبعضهم لم يُخرِج أوجياس من عتمة قذارته
الداخلية، فجعله يحنث بوعده مع هرقل ولا يكافئه بشىء مما أحنق البطل،
وجعله يقتل «أوجياس» ويجلس على عرش «إليس».
بغض النظر عن نهاية
القصة أو الأسطورة، ظلت فكرة هرقل هى الجوهر الثمين فى إنجاز مشروع نظافة
بذلك الحجم، ومن هنا كانت فكرة المسرحية التى تحدثت عنها، ومبعث الخاطر
الذى طاف برأسى وأنا أرصد مولد ظاهرة تراكم أكوام الزبالة فى شوارعنا منذ
عدة سنوات، لكن مع تفاقم الظاهرة هذه الأيام، وبشكل بشع ومهين ويسفر عن
فساد فاضح وصل بالزبالة إلى الأعناق بعد الرُكَب، أدركتُ أن هرقل ظهر فى
مصر بالفعل، وأنجز مهمته بشكل معكوس، لأنه لم يكن هرقل البطل الحقيقى، بل
هرقل المحتال.. المُزيَّف!
فمع بزوغ عصر البزنسة الملوثة، برز هرقل
المحتال وأعلن أنه سيقوم بتنظيف العاصمة من زبالتها، وحتى يوهم المصريين
بطموح مشروعه الوطنى للنظافة، سمّى شركاته بأسماء أوروبية ليوحى بأنه
سيجعل القاهرة فى نظافة روما ولندن وربما باريس. استحضَرَ سيارات قمامة
شيك ومحندقة، واكترى آلاف الكناسين ووضعهم فى يونيفورم موحد من عفاريت
بألوان تخطف البصر، أورانج متوهج، وأصفر فسفورى، وسماوى على موف، وزودهم
بمقشات طويلة وصناديق قمامة بلاستيكية متحركة. وبدا أن عاصمة البلاد على
وشك الدخول فى حقبة تاريخية نظيفة وعاطرة. لكن هيهات...
عادت أكوام
الزبالة كسابق عهدها تتراكم على الأرصفة وحول البيوت، بل فى عرض الشوارع،
وتعددت التبريرات، فأُلقى وزر هذا الانحطاط على عاتق إضراب الزبالين، ولما
طال الوقت بما ينفى ذريعة الإضراب، قيل أن الزبالين يفرزون زبالتهم على
النواصى، ليأخذوا منها ما يبيعونه لمقاولى تدوير المخلفات، ويتركوا ما
كانت تأكله الخنازير، بعد ذبح الخنازير، فى شوارع البشر!
بحثت عن
الحقيقة، فلم أجد ما يقاربها ويوحى بالإقناع إلا عند أبناء الكار أنفسهم
الذين رجونى ألاّ أبوح بأسمائهم، فشركات النظافة ذات الأسماء الأوربية
وعفاريت الكناسين الملونة، لم تكن غير سبوبة باضت ذهبا لهرقل المصرى
الجديد المحتال، فالعربات الرشيقة الأنيقة والعاملون عليها تم تحويلهم إلى
قطاع مقاولات خاصة من نوع جديد، تتعاقد على تنظيف حدائق الفيللات والقصور
مقابل آلاف الجنيهات، وترفع ركام عمليات التشييد والتشطيب بمقابل مجز تبعا
لحجم الأعمال التى يجرى تنفيذها، أما الكناسون الملونون، فقد أبقاهم هرقل
المحتال كرموز ممسوخة فى الشوارع، يُقلِّبون عيشهم بالتسول لأنهم يكادون
لا يقبضون شيئا يغنيهم عن مد الأيادى وذل السؤال، ولا يكنسون إن كنسوا
إلاّ بعد نفحات الإكرامية أو البقشيش!
قالوا من هرقلك ياهرقل؟ على
وزن من فرعنك يا فرعون؟ فلم تكن الإجابة «مالقيتش حد يردِّنى»، بل كانت
«اللى له ضهر ما ينضربش على بطنه»، ولم يكن ظهر هرقل المحتال غير بلطجة
الحكومة بجلالة قدرها، وهو ظهر مشدود يتوعدنا بالويل والثبور وعظائم
الأمور إن سددنا أنوفنا وفتحنا أفواهنا قليلا ونطقنا: «إف»، مجرد «إف».
وليس أدل على تلك البلطجة من إضافة رسوم «نظافة» على فواتير الكهرباء،
تذهب «فِردة» لمن لا يقومون لنا بأى مهام للنظافة، فالزبالة لا يزال
يأخذها الزبالون الذين يطوفون بالبيوت، ويأخذون مقابل ما يقومون به، وهم
يستحقونه، فكأننا ندفع للزبالة مرتين، مرة بوجه حق للزبالين، ومرة بقفا
باطل للأشباح حُماة هرقل المحتال، أو المنتفعين باحتياله.
البلطجة
واضحة فى ربط هذه الرسوم الباطلة بفاتورة الكهرباء، ومعناها بلغة تلويحات
مطواة قرن الغزال الحكومية الخفية الجلية «هاتدفعوا هاتدفعوا.. واللى ما
هايدفعش ها نخليهاله ضلمة».
هل هناك بلطجة أوضح من ذلك؟ وهل هناك
احتيال أبشع مما تدل عليه مقالب الزبالة فى الشوارع؟ لن أجيب، بل سأسد
أنفى وأفتح فمى لأنفخ ساخطا محتجا قرفانا زهقانا : «إاااااف». ثم، ماذا
علينا لو اجتمعنا على صيحة واحدة تصرخ فى وجه هرقل المحتال، وبطنه، وظهره:
«إاااااف».. سبعة وسبعين مليون إف؟!
جريده الشروق