التقوى أمام الكاميرا!
علاء الأسواني
فى الستينيات كان فى أسرتى عالم أزهرى اسمه الشيخ عبدالسلام سرحان.. مهيب
الطلعة بقامته الضخمة وزيه الأزهرى وصوته الجهورى.. وكنا نحن الأطفال
آنذاك نحبه لأنه يملأ جيوبه دائما بالملبس ليوزعه علينا.. وعندما كان
الناس يحتاجون إلى رأيه فى مسألة فقهية.. كان يستقبلهم بحفاوة فى بيته
ويشرح لهم أحكام الدين.. لم يكن واردا إطلاقا آنذاك أن يأخذ الشيخ
عبدالسلام أجرا عن هذا الجهد بل كان جل ما يطلبه من الناس الدعاء له
ولأسرته.
تعلمت من الشيخ عبدالسلام رحمه الله أن عالم الدين
الحقيقى شخصية عظيمة لا تقل احتراما عن الطبيب أو القاضى.. وثانيا أن
تعريف الناس بأحكام دينهم رسالة العلماء الحقيقية.. على أن زمن الشيخ
عبدالسلام قد ولى وتغيرت مصر.. وظهر جيل من الدعاة الجدد مختلفين فى كل
شىء.. وبسبب طبيعة المصريين المتدينة وازدياد لجوئهم إلى الله بعدما ضاقت
بهم الدنيا بسبب الفقر والظلم والمهانة، مع وجود ملايين الأميين وصعوبة
اطلاع المتعلمين على مصادر الدين الأصلية.. أصبح الدعاة الجدد مصدر
الثقافة الدينية لملايين المصريين.. وهم بالتالى يلعبون دورا حاسما فى
تشكيل الوعى العام.. مما يستوجب أن نقترب من هذه الظاهرة لنفهم طبيعتها..
أولا:
معظم هؤلاء الدعاة، لم يتلقوا دراسة أكاديمية للعلوم الشرعية.. وبتالى فإن
نجاحهم لم يكن وليدا لمعرفة عميقة بالدين بقدر ما تحقق بسبب قدرتهم على
الإقناع وجاذبيتهم الشخصية. من هنا حرصهم على الأناقة والرشاقة واستعمال
اللغة اليومية المبسطة ليصلوا إلى أكبر قدر من الجمهور، وخلال عشر سنوات
فقط تحول الدعاة الجدد إلى عنصر أساسى فى السوق التجارية للإعلام بكل ما
فى هذه العبارة من معنى.. فالأجر الذى يطلبه الداعية يتحدد طبقا لكمية
الإعلانات التى يحصل عليها البرنامج، والتى تزيد بالطبع مع زيادة
المشاهدين. أما الدعاة الأكبر أجرا هم الذين تحصل برامجهم على كمية أكبر
من الإعلانات، ويكفى أن نعلم أن أجر الداعية منهم (بأسعار العام الماضى)
يتراوح من مائة وخمسين ألف جنيه إلى مليون جنيه خلال شهر واحد.
وقد
ابتكر بعضهم أساليب جديدة لبيع معلوماتهم الفقهية، مثل الهاتف الإسلامى
ومصاحبة الأثرياء فى الحج والعمرة بأتعاب باهظة.. وقد نشرت مجلة فوربس
الأمريكية دخول بعض هؤلاء الدعاة فإذا بها ثروات طائلة.. نحن نتمنى للناس
جميعا، طبعا، أن ينعموا بالثراء.. لكننا يجب أن نذكر أن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) قد عاش فقيرا ومات فقيرا، وأن الصحابة رضى الله عنهم لم
يتكسبوا قط من الدعوة الإسلامية بل كانوا ينفقون عليها. كما أن دعوة الناس
إلى الله فى التاريخ الإسلامى لم تكن قط وسيلة لصناعة الثروات.. وعندما
أتصور أن ملايين المصريين الفقراء من ساكنى العشوائيات والمقابر. يجتمعون
حول التليفزيون ليشاهدوا من يحدثهم فى الدين.. ثم ينقضى الشهر فيظل هؤلاء
البؤساء على حالهم بينما يزيد رصيد الداعية فى البنك بمقدار مليون جنيه.
لا أستطيع أن أستوعب هذا التناقض.
ثانيا: يعتمد كثير من الدعاة
الجدد على إثارة عواطف المشاهدين الدينية أثناء البرنامج.. وتبلغ هذه
الإثارة ذروتها عندما يبكى الداعية ويدفع المشاهدين إلى البكاء من خشية
الله.. وهنا يصدمنا تناقض آخر. فكل من خاض تجربة الظهور فى التليفزيون
يعلم أن التعامل مع الكاميرات المختلفة أثناء التسجيل يحتاج إلى استعداد
وخبرة.. وإنى، مع احترامى الكامل، أتساءل كيف يستطيع الداعية أن يجمع فى
نفس الوقت بين مشاعره الدينية الفياضة التى تدفعه إلى البكاء، وانتباهه
الحاد باتجاه الكاميرات وحركتها التى تستدعى التفاته بسرعة من كاميرا إلى
أخرى.. بناء على تعليمات المخرج؟!
ثالثا: الخطاب الذى يقدمه
هؤلاء الدعاة يختصر الإسلام فى الشكل والعبادات: الحجاب والصلاة والصيام
والحج والعمرة.. لا اعتراض على ذلك بالطبع.. لكنهم لا يتحدثون إطلاقا عن
الحرية والعدل والمساواة.. وهى المبادئ الإنسانية التى نزل الإسلام أصلا
لتحقيقها.. والتصور الذى يقدمونه للعالم، يتبنى مكارم الأخلاق كحل وحيد
لكل معاناة الإنسان.. والحق أن الدعوة إلى مكارم الأخلاق لا تكفى أبدا
لتحقيق العدل. إن ملايين المصريين الغارقين فى البؤس والمهانة، قبل كل
شىء، هم ضحايا لنظام استبدادى فاسد وظالم.. هذا هو سبب بؤسهم ولا يمكن
إنهاء معاناتهم بدون تغيير الأوضاع. وقد اشتهرت مقولة أحد الدعاة: «عندما
يبلغ عدد المصلين فى الفجر عددهم فى صلاة الجمعة فإن القدس سوف تتحرر»..
وها نحن نرى المصلين فى مصر يتضاعف عددهم باطراد لكن الهزائم والمصائب
تتوالى على رءوسنا بلا توقف.. لأن الله لن يغير أحوالنا أبدا حتى نعمل نحن
على تغييرها ولا نكتفى فقط بالصلاة والدعاء.
رابعا: هذه القراءة
للدين التى تعفى النظام الحاكم من مسئوليته وتجعل الناس يتعايشون مع الظلم
بدلا من الثورة عليه.. هى بالضبط ما يفسر مباركة أجهزة الأمن للدعاة
الجدد.. وفى كتابه المهم «ظاهرة الدعاة الجدد» أثبت الأستاذ وائل لطفى
أنهم جميعا، بدون استثناء واحد، يعملون بتنسيق كامل مع أجهزة الأمن..
بمعنى أنهم يتفقون مسبقا مع ضباط الأمن على حدود ما يقال وما لا يقال،
سواء فى التليفزيون أو فى المساجد.. وكلنا يذكر كيف وقف هؤلاء الدعاة
جميعا ضد المظاهرات التى اندلعت فى مصر تضامنا مع الفلسطينيين
والعراقيين.. ودعوا الناس، بدلا من التظاهر، إلى الصلاة والصيام والدعاء..
هكذا يقضى اتفاقهم مع الأمن.. وأى إخلال به يكلف الداعية ثمنا باهظا بدءا
من منعه من الخطابة وحتى إخراجه من مصر نهائيا.. كما حدث مؤخرا مع داعية
شهير.
خامسا: اختلف فقهاء الإسلام على جواز أخذ الأجر على
الفتوى.. بعضهم حلله على أن يكون من بيت المال وبعضهم أباح أن يأخذ رجل
الدين ما يكفيه وأسرته لا أكثر بينما اشترط الإمام أحمد بن حنبل فيمن يجلس
للفتوى أن يكون مستغنيا بماله عن مال الناس.. والفكرة هنا أن عالم الدين
مثل القاضى يحكم بين الناس، وبالتالى يجب أن يتوفر له استقلال القاضى واذا
كان كثير من المصريين، وأنا معهم، يأخذون على كبار علماء الأزهر كونهم
موظفين معينين من قبل الدولة مما يجرح حيادهم ويوقعهم فى حرج إذا أفتوا
بعكس ما تريده الدولة منهم، فعلينا أن نمد الخط على استقامته بالنسبة إلى
الدعاة الجدد، الذين يتقاضون أموالهم الوفيرة من فضائيات مملوكة لأشخاص أو
جهات (سعودية فى الغالب).
مما قد يؤثر بالقطع على حيادهم فى كل
ما يتعلق بمصالح أصحاب هذه الفضائيات.. وقد ظهر هذا جليا أثناء حرب
إسرائيل الأخيرة على لبنان.. فقد كان معظم العرب والمسلمين مؤيدين لحزب
الله وفخورين بانتصاره، بينما ظل موقف الحكومة السعودية التقليدى ضد حزب
الله وإيران.. الأمر الذى أوقع الدعاة الجدد فى حرج وبينما كانت الطائرات
الإسرائيلية تستعمل القنابل المحرمة دوليا لتحرق جلود أطفال لبنان، فضل
معظم الدعاة الجدد أن يلوذوا بالصمت بينما انتظر أحدهم ثلاثة أسابيع كاملة
ثم أصدر بيانا فاترا نصح فيه المسلمين كالعادة، بالصلاة والدعاء ثم وصف
الضحايا فى لبنان بأنهم قتلى وليسوا شهداء.. الأمر الذى يتفق مع وجهة نظر
فقهاء السعودية فى الشيعة.
إن ظاهرة الدعاة الجدد، بهذا الشكل،
تلعب دورا أساسيا فى تأخير التغيير الذى نتوق إلى حدوثه فى مصر.. واذا كنا
نتساءل: لماذا لا يثور المصريون على مظالم تكفى لإحداث الثورة فى عدة
بلاد؟!.. فيجب أن ندرك أن حدوث الظلم ليس كافيا لإحداث الثورة، ولا حتى
الإحساس بالظلم وانما ما يدفع إلى الثورة هو الوعى بأسباب الظلم..
وبالتالى فإن كل ما يؤخر وعى الناس بحقوقهم يتحول إلى أداة فى يد
الاستبداد.
الديمقراطية هى الحل