.. أحزان الآنسة لورنس..!!
علاء الأسواني
الآنسة لورنس فرنسية، إخصائية علاج طبيعى، سنحت لها فرصة عمل فى مصر ففرحت جدا لأنها مثل معظم الفرنسيين تعشق الحضارة المصرية وتحلم برؤية النيل والأهرامات والمعابد الفرعونية. التقيت بالآنسة لورنس فى القاهرة فى مناسبات متفرقة.. منذ أيام قابلتها ففوجئت بها تقول:
ــ لقد قررت أن أغادر مصر إلى الأبد..
ــ لماذا..؟
ــ لأننى لم أعد أحتمل أن أكون امرأة معروضة..
ــ ماذا تعنى..؟
ــ فى كل مرة أخرج فيها إلى الشارع. أعانى بمعنى الكلمة. لا أشعر أننى إنسان لديه عقل وأحاسيس.. أشعر بأننى جسد لا أكثر.. بأننى امرأة معروضة للجميع. كل رجل أقابله يتطلع إلى جسدى بوقاحة ويعرينى بنظراته.. أصبحت أتفادى الأماكن المزدحمة لأننى أعرف أن الزحام معناه التحرش.. معناه أن تمتد يد رجل ما إلى صدرى أو ساقى أو أى مكان فى جسدى..
ــ هل يحدث ذلك دائما..؟
ــ بدون استثناء واحد.. الذى لا يستطيع أن يلمسنى فى الزحام، يتكلم معى بإنجليزية ركيكة ليعرف إن كان لى صاحب أو زوج حتى يسعى للنوم معى.. حتى الرجال الذين يمشون على الرصيف المقابل.. يصيحون بألفاظ جنسية أو يصفرون ويلوحون.. أول مرة ركبت فيها المترو كانت تجربة مريعة.. عشرة رجال أخذوا يتطلعون بشهوة إلى جسدى فى نفس الوقت.. بعد ذلك أصبحت أركب عربة النساء..
ــ هل ترتدين ثيابا عارية..؟
ــ إطلاقا.. أنت رأيتنى أكثر من مرة فماذا كنت أرتدى..؟ أنا أحترم ثقافة الآخرين وأعلم أن مصر بلد محافظ. حتى أثناء الصيف عندما أرتدى فانلة بدون أكمام أضع على كتفى دائما شالا حريريا ليغطى ذراعاى..
ــ ألا يحدث لك مثل هذا التحرش فى فرنسا..؟
ــ نادر جدا.. بعد عام ونصف العام فى القاهرة ما زلت لا أصدق ما يحدث.. يخيل إلى أحيانا أن كل الرجال المصريين قد أصيبوا بلوثة جنسية.. أصبحت أخاف من الخروج فى الشارع.. إذا لم يكن لدى عمل أظل فى البيت أياما بأكملها
ــ وماذا ستفعلين الآن..؟
ــ أنا سعيدة لأننى حصلت على فرصة عمل فى اليونان.. أنتظر موعد سفرى بفارغ الصبر.. على الأقل فى اليونان لن يسعى أحد إلى تحسس جسدى أو يرمقنى بنظرة شهوة أو يدعونى إلى الفراش بمجرد أن يرانى.. سأحس هناك بأننى انسانة ولست امرأة معروضة للجنس.
انتهى حوارى مع الآنسة لورنس وأحسست بحزن.. كيف يحدث ذلك فى مصر التى اشتهر أهلها دائما بالتهذيب وحسن التعامل واحترام الأجانب.؟! عدت إلى الدراسات التى أجريت حول التحرش الجنسى فى مصر فوجدت نتائج مفزعة.. فى العام الماضى، كشفت دراسة للمركز المصرى لحقوق الإنسان عن أن 98% من الأجنبيات و83% من المصريات يتعرضن للتحرش الجنسى فى مصر.. الغريب أن ينتشر كل هذا التحرش مع موجة كاسحة من التدين الشكلى.. كل هذه اللحى والجلابيب والميكروفونات الزاعقة والقنوات السلفية الوهابية والدروس ومظاهر التدين.. لم تمنع التحرش الجنسى.. لماذا يتحرش المصريون بالنساء..؟:
الإجابة التقليدية أن المرأة هى المسئولة عن التحرش بها.. لأنها ترتدى ثيابا تكشف جسدها فتدفع الرجال للتحرش بها.. وهذا منطق شاذ ومتهافت..
أولا لأنه يلوم الضحية بدلا من الجانى..
ثانيا لأنه يقدم الرجال وكأنهم مجموعة من البهائم السائبة لا يمكنهم أبدا التحكم فى غرائزهم.. ما أن يلمحوا جزءا عاريا من جسد المرأة حتى ينقضوا عليها.
ثالثا لأن معظم النساء فى مصر الآن محجبات لكن ذلك لم يحمهن من التحرش كما أكدت الدراسة التى أشرت إليها..
رابعا: لأن المرأة المصرية حتى نهاية السبعينيات كانت ترتدى ثيابا عصرية كثيرا ما تكشف عن ذراعيها أو ساقيها، وبالرغم من ذلك فإن نسبة التحرش الجنسى آنذاك كانت أقل بكثير منها الآن..
خامسا: لأنه فى فرنسا مثلا حيث تكشف السيدات غالبا أجسادهن.. تصل نسبة التحرش الجنسى (طبقا لجريدة النيويورك تايمز) إلى 20%، ومعنى ذلك أن النساء يعانين من التحرش فى مصر المتدينة أربعة أو خمسة أضعاف النساء فى فرنسا العلمانية.
بل إن المجتمعات التى تفصل تماما بين الرجال والنساء (مثل السعودية وأفغانستان) تسجل أعلى معدلات فى التحرش الجنسى على مستوى العالم. الظاهرة إذن أعقد بكثير من نوع الملابس التى ترتديها المرأة. إن التحرش الجنسى، فى رأيى، ينتشر بضراوة فى مصر للأسباب التالية:
1ــ البطالة: ملايين الشباب الذين فشلوا فى العثور على عمل بعد إكمال تعليمهم يتملكهم الإحباط واليأس ويكفرون بفكرة العدالة.. إذ إن الأسباب فى مصر لا تؤدى إلى النتائج.. الاجتهاد لا يؤدى بالضرورة إلى النجاح، والتفوق الدراسى لا يؤدى بالضرورة إلى العثور على وظيفة محترمة، والالتزام بالأخلاق لا يؤدى بالضرورة إلى الترقى الاجتماعى.. بل على العكس فإن الانحراف الأخلاقى كثيرا ما يؤدى إلى تكوين الثروة.. كل ذلك لابد أن يدفع الشباب إلى العنف.. وهنا يؤكد علماء النفس أن الجرائم الجنسية لا ترتكب دائما بغرض إشباع الشهوة.. فالتحرش الجنسى كثيرا ما يرتكبه الرجال كوسيلة للانتقام من المجتمع أو للتنفيس عن الغضب والإحباط.
2ــ صعوبة الزواج فى مصر: ملايين المصريين عاجزون عن تدبير تكاليف الزواج، وحيث إن التقاليد وأوامر الدين (الإسلامى والمسيحى) تحرم العلاقات خارج الزواج.. فإن معظم الشباب فى مصر يعانون من كبت جنسى لابد أن يدفعهم فى لحظة ما إلى التحرش بالنساء.
3ــ انتشار الأفلام الإباحية وسهولة الحصول عليها بسبب ثورة الاتصالات وانتشار الإنترنت.. والحق إن ضرر المواد الإباحية لا يقف فقط عند إثارة غرائز الشباب المكبوت أساسا، لكنه يتعدى ذلك إلى تسهيل فكرة الاعتداء الجنسى ونزع الطابع الإجرامى عنها ورفع الخصوصية والاحترام عن العلاقة الجنسية، وبالتالى يصبح التحرش الجنسى مجرد فعل متعة بدلا من كونه جريمة مشينة.
4ــ السبب الأخير أن نظرتنا إلى المرأة فى مصر قد تغيرت.. فمنذ مطلع القرن الماضى خاضت المرأة المصرية نضالا طويلا حتى تحررت من وضع الحريم وتساوت مع الرجل فى التعليم والعمل واكتسبت مكانة محترمة فى المجتمع.. ثم وقع المجتمع المصرى تحت تأثير القراءة الوهابية المنغلقة للإسلام.. وهذه القراءة بالرغم من تشددها فى تغطية جسد المرأة فإنها تختصر المرأة فى كونها أداة متعة ومصدر غواية وماكينة إنتاج أطفال وخادمة بيت.. وكل ما عدا ذلك أقل أهمية..
بل إن بعض شيوخ الوهابيين أثناء دفاعهم عن الزى الإسلامى، يشبهون المرأة بقطعة حلوى يجب أن تكون ملفوفة جيدا حتى لا يقف عليها الذباب.. وبالرغم من حسن النية لدى القائلين بذلك فإن تشبيه المرأة بقطعة حلوى ينزع عنها الطابع الإنسانى.. فقطعة الحلوى بلا أحاسيس ولا عقل ولا إرادة وفائدتها الوحيدة أن نأكلها لنستمتع بطعمها.. وبالتالى فإن من يتوق إلى الحلوى ولا يملك شراءها، إذا سنحت له فرصة لكى يأكل قطعة حلوى مملوكة لسواه ويفلت من العقاب لن يتردد أبدا.. وهذا بالضبط ما يفعله الرجل الذى يتحرش بالنساء فى الشارع.
.. لن يتوقف التحرش بالنساء إلا عندما نستعيد قراءتنا المصرية المنفتحة الصحيحة للإسلام، التى تعتبر المرأة إنسانا كامل القدرة والأهلية وليست مجرد جسد أو قطعة حلوى.. سوف يتوقف التحرش عندما يتوقف الفساد والاستبداد والظلم.. عندما يأتى نظام سياسى جديد، منتخب من الشعب، يمنح ملايين الشباب حقهم الطبيعى فى الحياة والعمل والزواج..
.. الديمقراطية هى الحل..